خطبة 18



أَيُّهَا المُؤمِنُونَ : إِنَّ التَّفَرُّغَ لِلعِبَادَةِ وَلُزُومَ الطَّاعَةِ ، وَالاستِقَامَةَ في طَرِيقِ الهُدَى وَالإِكثَارَ من ذِكرِ اللهِ ، هِيَ زَادُ المُبتَلَى الصَّابِرِ وَحِليَةُ المَنصُورِ الظَّافِرِ ، بها يُستَجلَبُ الخَيرُ وَيُستَدفَعُ الضُّرُّ ، وَبِسَبَبِهَا تَطمَئِنُّ القُلُوبُ وَتَنشَرِحُ الصُّدُورُ ، وَمَنِ استَوعَبَ عُمُرَهُ في عِبَادَةِ رَبِّهِ وَاشتَغَلَ بِذِكرِهِ ، رَزَقَهُ اللهُ من حيث لا يحتسب وَجَمَّلَهُ بِالرِّضَا ، وَأَعَانَهُ وَحَفِظَهُ وَيَسَّرَ أَمرَهُ ، وَمَلأَ قَلبَهُ غِنىً وَوَسَّعَ له الأرزاق..

قَالَ ـ سُبحَانَهُ ـ لِنَبِيِّهِ : "وَأمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى" وَقَالَ ـ تَعَالى ـ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " وَقَالَ ـ تَعَالى ـ في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: " يَا بنَ آدَمَ ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتي أَملأْ صَدرَكَ غِنىً وَأَسُدَّ فَقرَكَ ، وَإِن لا تَفعَلْ مَلأتُ يَدَيكَ شُغلاً وَلم أَسُدَّ فَقرَكَ". وَفي وَصِيَّتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ لابنِ عَبَّاسٍ : " اِحفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ ، اِحفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إِلَيهِ في الرَّخَاءِ يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ ، وَإِذَا سَأَلتَ فَاسأَلِ اللهَ ، وَإِذَا استَعَنتَ فَاستَعِنْ بِاللهِ ، قَد جَفَّ القَلَمُ بمَا هُوَ كَائِنٌ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ.. وَاعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ عَلَى مَا تَكرَهُ خَيرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا"

 إِنَّ التَّمَسُّكَ بِالحَقِّ وَاقتِفَاءَ السُّنَنِ وَالوُقُوفَ عِندَ الأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَتَنوِيعَ القُرُبَاتِ وَالإِكثَارَ مِنَ البَاقِيَاتِ الصَّالحَاتِ ، كُلَّ ذَلِكَ حِليَةُ المُؤمِنِينَ الصَّادِقِينَ ، وَزَادُ المُصلِحِينَ المُخلِصِينَ ، وَإِنَّ أَمَامَ الأُمَّةِ غَايَاتٍ بَعِيدَةً ، وَبَينَ أَيدِيهَا أسفارا طَوِيلَةٌ ، لا يَفُوزُ فِيهَا وَلا يُهدَى إِلاَّ المُجَاهِدُونَ ، وَإِنَّ ثَمَّةَ عَقَبَاتٍ صِعَابًا وَمُهِمَّاتٍ ثِقَالاً ، وَأَزمِنَةَ فِتَنٍ وَمَلاحِمَ وَهَرجٍ وَمَرجٍ ، لا يَتَجَاوَزُهَا وَيَحمِلُهَا إِلاَّ المُطيعون المصابرون، وَقَد قَالَ ـ تَعَالى ـ لِنَبِيِّهِ : "فَاصبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنهُم آثِمًا أَو كَفُورًا. وَاذكُرِ اسمَ رَبِّكَ بُكرَةً وَأَصِيلاً. وَمِنَ اللَّيلِ فَاسجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيلاً طَوِيلاً. إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُم يَومًا ثَقِيلاً " وَقَالَ ـ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ـ مُمتَدِحًا العِبَادَةَ وَلا سِيَّمَا في مِثلِ هَذِهِ الأَزمِنَةِ : " العِبَادَةُ في الهَرجِ كَهِجرَةٍ إِليَّ"..

فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ وَتُوبُوا إِلى رَبِّكُم وَعُودُوا إِلى رُشدِكُم ، وَكُونُوا مَعَ اللهِ يَكُنْ مَعَكُم ، طَهِّرُوا القُلُوبَ ممَّا اعتَرَاهَا ، وَأَنقِذُوا النُّفُوسَ ممَّا اعتَلاهَا ، حَقِّقُوا العُبُودِيَّةَ للهِ مَحَبَّةً لَهُ وَخَوفًا مِنهُ وَرَجَاءً ، وَإِخلاصًا لَهُ وَتَوَكُّلاً عَلَيهِ ، وَإِيَّاكُم وَالاستِهَانَةَ بِالمَعَاصِي كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا ، وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثمِ وَبَاطِنَهُ ، وَتجنبوا المُجَاهَرَةَ وَالزَمُوا الحَيَاءَ ، تَنَاصَحُوا وَمُرُوا بِالمَعرُوفِ وَانهَوا عَنِ المُنكَرِ ، وَحَذَارِ مِن نِسيَانِ عَهدِ اللهِ، فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تَشتَرُوا بِعَهدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاًَ. مَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ

Comments

Popular Posts