السعادة - أسيل درويش

السعادة

أسيل درويش

السعادة..”ما هي السعادة وكيف يمكنك أن تعيش سعيداً”…”كيف تحصل على السعادة”..”أقصر الطرق للسعادة”…تطالعك عناوين المئات بل الآلاف من المقالات والكتب مع وعد مؤكد لك أن بمطالعتها وتنفيذك لما ورد فيها ستصبح بالتأكيد أكثر سعادة…وتقرأ وتقرأ ونادراً ما تتغير حياتك…فتعتقد أن السبب فيك وأن عدم شعورك بالسعادة يرجع إلى عدم قدرتك على تطبيق ما قرأته…ماذا لو كان ما قرأته صعب التحقيق أو غير صحيح بالشكل الكامل…وأن العيب أغلبه فيما تقرأه وليس في تنفيذك إياه…


كم من مرة أغلقت عينيك على صورةٍ لك في سيارة فارهة تقودها بجنون وبجانبك امرأة بارعة الجمال في طريقكم إلى عشاء فاخر بباريس…أو تغلقين عينيك سيدتي لتري نفسك وقد خسرت عشرين كيلو غراماً من وزنك الحالي وترتدين أبهى رداء بانتظار كلمة “كلاكيت” ليبدأ تصوير أحدث أفلامك السينمائية التي ينتظرها جمهورك بكل شوق..والكثير الكثير من الأحلام…


تختلف الأحلام والآمال والشعور واحد..الشعور بأن شيئاً ما ينقصك…وأن حياتك ستكون أفضل بكثير لو حصلت على هذا الشيء…وتتعدد مفاتيح السعادة فيأتي في أولها المال والحب والجمال وعودة الشباب والوظيفة والزواج والأطفال وقائمة لا تنتهي من الأماني تجعلك لا تفضل حاضرك وتعدو وراء تلك الآمال طوال عمرك.


ولكن لحظة…دعني أسألك سؤالاً واحداً فقط يستحق التفكير…من منا سعيد؟؟؟ لا تنظر إلى هكذا…أنا أقصد السعادة المطلقة والغير مشروطة…السعادة المستمرة…فهل أنت سعيد؟ هل الأغنياء سعداء؟؟ هل الأصحاء سعداء؟؟هل حسناوات السينما سعيدات؟ هل جارك سعيد؟ هل زميلك في العمل سعيد؟ دعني أجيب نيابةً عنك وعنهم..الإجابة لا!


لن تجد شخصاً سعيداً بالصورة المطلقة على وجه الأرض، ما أن يشعر الإنسان أنه سعيد لساعة، ليوم أو لشهر يأتي تَطلُع جديد ويأتي أمل جديد يربطه بالمستقبل ويجعله يبغض ما في حاضره أو على الأقل يشعر بعدم الرضا تجاه بعض ما فيه.


هل يعني هذا أننا جميعاً تعساء؟؟ بتاتاً، ليس هذا ما أقصده، فالحياة مليئة بمدخلات البهجة والفرح، فهناك الكثير من المشاعر التي تعيننا على الحياه يأتي في أولها القرب من الله والنجاح ومساعدة الغير وحب الناس والمغامرة والكثير من المشاعر التي لا تنتظر فيها المستقبل لتملأ قلبك بالأمل والسرور. إنها المشاعر التي تسببها أنت ولا يسببها التغيير. تغيير السيارة، تغيير شريك الحياة، تغيير الوظيفة وغيرها من أوجه التغيير التي نسعى من ورائها إلى السعادة.


إن التمني والسعادة وجهان لعملة واحدة قد صكها الشيطان لا ليسعدك ولكن ليشقيك، فلولا السعي وراء السعادة لما سرق السارق ولا خان الزوج ولا ارتشى المسؤول ولما قامت الحروب ولما قتل الابن أباه طمعاً في ثروته.


إن السعي وراء المال ليس سعياً للمال ذاته وإنما هو سعي للسعادة التي تتمنى أن يجلبها لك المال، فيمثل لك الشيطان أنك بحصولك على المال أو السلطة أو المنصب ستكون أكثر سعادة…فيترتب على هذا الشعور صنفان من ردود الفعل…فيقدم من لا يخاف ربه على الحصول عليها بالسرقة أو التحايل في حين يعمد من لا يستطيع القيام بهذه الخطوة إلى كره حياته ووضعه الحالي مع عدم تغييره وفي الحالتين فإن هذا هو أساس كل الشرور في الدنيا.


إن آمن الإنسان بأنه ليس هناك سعادة مطلقة على وجه الأرض وأن الدنيا ما هي إلا رحلة قصيرة وامتحان -إن نجحت فيه وصلت إلى السعادة الحقيقية – فإنه سيتحرر من جميع هذه الهلاوس.


كن سعيداً هنا والآن، لأنك لن تكون أكثر سعادة عند شرائك للسيارة الجديدة أو عندما يهديكِ زوجك العقد الذهبي الذي تتمنينه بمناسبة عيد زواجكما. لا تدع الدعايات التي تحاصرنا تشوش على تفكيرك وتخدعك. إن الأم المرحة السعيدة الرشيقة ذات الأسنان اللامعة والطباخة الماهرة التي تلعب مع أطفالها في حديقة فيلتها الأنيقة العصرية غير موجودة في الحقيقة. ولن تكن موجودة أبداً، لأن الأم الحقيقة التي تلعب مع أطفالها سيشغل بالها ألف فكرة في ذات الوقت، فهي ستفكر في واجباتها الاجتماعية وأمها المريضة ودفع مصروفات المدرسة وعدم قدرتها على الاهتمام بزوجها و تقصريها تجاه ربها والكثير الكثير من الهموم التي تشغل بالها وبال كل شخص على وجه الأرض..فتختلف الهموم ولكن النتيجة واحدة…عدم الرضا بالواقع والشعور بأن هناك المزيد.


وهنا يجب أن أوجه لك سؤالاً غريباً بعض الشئ …هل كنت سعيداً عندما كنت تستعد لاختبارات الثانوية؟..أو خلال جلوسك في لجنة اختبار اللغة الانكليزية بالصف الثالث الإعدادي؟ أو عند مقابلة العمل الأولى؟ أبداً…إذاً لماذا تتوقع أن تتمتع بالسعادة المطلقة والغير مشروطة في اختبار الدنيا…إنه اختبار..هي كلمة نقولها دوماً لكننا لا نعيشها!


أنا لا أقول أن تستسلم للواقع بجميع سلبياته…أبداً…فقط أتمنى أن نصبح جميعاً أذكى من ذلك ولا نقع في مصيدة الشيطان بهذه السهولة، الشيطان يريدنا في أسوء وأتعس حال فيربطنا بالماديات ويُعظم أهميتها في أعيننا لنتعلق بها وننسى الهدف الأساسي لحياتنا…والله يريدنا أن نترفع عن جميع الأمور الدنيوية التي تجلب لنا التعاسة…


الحياة اختبار، فتقرب إلى ربك حيث تكمن السعادة الحقيقة…فلن تكن سعيداً بغير ذلك…لذا تجد آلاف الدراسات والكتب والمقالات التي تتحدث بصيغة مختلفة عن سبل السعادة ولا تفلح… كن مع الله…وتيقن أن الدنيا ليست الغاية…وإنما السبيل…فلا تعبأ لها ولا تمنحها أكثر من أهميتها…فلو كان إدراك مفاتن الدنيا بهذه الأهمية لما سُميت بالحياة “الدنيا” …فهي أدنى أن نعبئ بها بهذا الشكل المبالغ فيه…

Comments

Popular Posts